في عصر تغيّر المناخ، وأزمة الموارد، والتحوّلات المتسارعة في المدن، لم يعد من الممكن النظر إلى قطاع البناء باعتباره مجرد نشاط تنفيذي. فالبناء اليوم أداة قوية لصياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ولهذا، إذا كانت التنمية المستدامة ستشكّل منهجاً ناظماً للتخطيط الوطني الشامل، فلا يمكن تصور ذلك دون وضع قطاع البناء والإنشاءات في قلب هذه الاستراتيجيات.
غير أن هذا الأمر يتجاوز الالتزامات البيئية أو ترشيد استهلاك الموارد؛ فالمسألة تتعلق بإعادة تعريف «الدور الاستراتيجي للبناء» في تصميم مستقبل الدولة.
يشكّل قطاع البناء في العديد من الدول أحد المحرّكات الأساسية للنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل. لكن في إطار التنمية المستدامة، لم يعد هذا الدور مقتصراً على كونه محفّزاً اقتصادياً فقط؛ فالمشاريع الإنشائية، نظراً لاتساع سلاسل التوريد فيها، وحاجتها إلى تنسيق بين القطاعات، وتأثيرها المباشر على البيئة والبنية التحتية والعدالة المكانية والرفاه الاجتماعي، أصبحت عملياً أداة لتنفيذ السياسات العامة على المستوى الوطني.
فعلى سبيل المثال، تبقى سياسات مثل الوصول إلى صفر انبعاثات، إدارة أزمة المياه، تعزيز المرونة الحضرية، تحقيق التنمية الإقليمية المتوازنة، بل وحتى ضبط التضخم الهيكلي، مجرد شعارات ما لم يُدمج قطاع البناء فيها دمجاً كاملاً.
تُعرَّف التنمية المستدامة تقليدياً وفق ثلاثة محاور: الاقتصادي، والاجتماعي، والبيئي. وقطاع البناء يقع تماماً عند تقاطع هذه المحاور:
اقتصادياً: يشكّل البناء ما بين 8 إلى 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي في كثير من الدول، ويُعد من القطاعات القاطرة. لكن المسألة لا تتعلق بالنسب فحسب، بل بقدرته على خلق سلاسل قيمة في مجالات تكنولوجيا البناء، اللوجستيات، الطاقة المتجددة، تقنيات التشييد الرقمية، وأتمتة عمليات البناء بالكامل.
اجتماعياً: يمكن للمشاريع الإنشائية إعادة صياغة أنماط السكن، وإمكانية الوصول إلى الخدمات، وتوزيع الرفاه، والعدالة المكانية. كما أن سلامة العمال، والشمول الاجتماعي في التصميم، وتحسين جودة الحياة الحضرية، كلها تعتمد على جودة السياسات الإنشائية.
بيئياً: يساهم هذا القطاع بنسبة 38٪ من إجمالي الانبعاثات الكربونية عالمياً، ويستهلك أكثر من 30٪ من الموارد الطبيعية. ومن دون تدخلات منهجية في مجالات التصميم، والمواد، والطاقة، ودورة حياة المباني، فلن تكون أي خطة مناخية فعّالة.
في كثير من الدول، ما يزال قطاع البناء يُعامل كقطاع تنفيذي مستقل لا كأداة لصياغة السياسات. وقد أدّى هذا النهج التقليدي إلى فشل العديد من المشاريع الكبرى في الانسجام مع الأهداف الوطنية الاستراتيجية. والحل هو اعتبار القطاع «منظومة وطنية متوافقة مع التنمية المستدامة».
ويمتد هذا التحوّل ليشمل إعادة هيكلة المؤسسات، وتصميم حوافز موجّهة، ووضع تشريعات متناسقة مع الأهداف المناخية، وفرض معايير أداء وجودة في المناقصات والمشاريع الحكومية.
لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة على المستوى الوطني دون إعادة هندسة قطاع البناء من ثلاثة جوانب رئيسية:
إنشاء هياكل حوكمة متعددة المستويات للمشاريع (Multilevel Governance).
وضع معايير وطنية للمواد، والطاقة، وإدارة النفايات الإنشائية.
تطوير أنظمة ميزانية قائمة على قيمة دورة حياة المشروع (Life-Cycle Value).
عندها فقط يتحوّل البناء من مجرد نشاط تنفيذي إلى أداة لتشكيل المستقبل الحضري والبيئي والاقتصادي للدولة.